فصل: ذكر هلاك أبي داود عامل خراسان وولاية عبد الجبار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة ثمان وثلاثين ومائة:

.ذكر خلع جمهور بن مرار العجلي:

وفيها خلع جمهور بن مرار المنصور بالري.
وكان سبب ذلك أن جمهوراً لما هرم سنباذ حوى ما في عسكره، وكان فيه خزائن أبي مسلم، فلم يوجهها إلى المنصور، فخاف فخلع ووجه إليه المنصوةر محمد بن الأشعث في جيش عظيم نحو الري، ففارقها جمهور نحو أصبهان، ودخل محمد الري، وملك جمهور أصبهان، فأرسل إليه محمد عسكراً، وبقي في الري، فأشار على جمهور بعض أصحابه أن يسير في نخبة عسكره نحو محمد فإنه في قلة، فإن ظفر لم يكن لمن بعده بقية، فسار إليه مجداً.
وبلغ خبره محمداً، فحذر واحتاط، وأتاه عسكر من خراسان فقوي بهم، فالتقوا بقصر الفيروزان بين الري وأصبهان فاقتتلوا قتالاً عظيماً، ومع جمهور نخبة فرسان العجم، فهزم جمهور وقتل من أصحابه خلق كثير، وهرب جمهور فلحق بأذربيجان، ثم إنه بعد ذلك قتل بإسباذروا قتله أصحابه وحملوا رأسه إلى المنصور.

.ذكر قتل ملبد الخارجي:

قد ذكرنا خروجه في السنة قبلها، وتحصن حميد منه، ولما بلغ المنصور ظفر ملبدٍ، وتحصن حميد منه، وجه إليه عبد العزيز بن عبد الرحمن أخا عبد الجبار وضم زياد بن مشكان، فأكمن له ملبد مائة فارس، فلما لقبه عبد العزيز خرج عليه الكمين فهزموه وقتلوه عامة أصحابه.
فوجه إليه خازم بن خزيمة في نحو ثمانية آلاف من المروروذية، فسار خازم حتى نزل الموصل، وبعث إلى ملبد بعض أصحابه، وعبر ملبد دجلة من بلد وسار نحو خازم، وسار إليه خازم وعلى مقدمته وطلائعه فضلة بن نعيم بن خازم بن عبد الله النهشلي، وعلى ميمنته زهير بن محمد العامري، وعلى ميسرته أبو حماد الأبرص، وخازم في القلب، فلم يزل يساير ملبداً وأصحابه إلى الليل وتواقفوا ليلتهم، فلما كان الغد سار ملبد نحو كورة حزة، وخازم في أثره وتركوا خندقهم، وكان خازم قد خندق على أصحابه بالحسك، فلما خرجوا منه حمل عليهم نملبد وأصحابه. فلما رأى ذلك خازم ألقى الحسك بين يديه ويدي أصحابه، فحملوا على ميمنة خازم فطووها، ثم حملوا على الميسرة وطووها، ثم انتهوا إلى القلب وفيه خازم، فنادى خازم في أصحابه: الأرض! فنزلوا ونزل ملبد وأصحابه وعقروا عامة دوابهم، ثم اضطربوا بالسيوف حتى تقطعت.
وأمر خازم فضلة بن نعيم أن إذا سطع الغبار ولم يبصر بعضنا بعضاً فارجع إلى خيلك وخيل أصحابك فاركبوها ثم ارموهم بنشاب؛ ففعل ذلك، وتراجعأصحاب خازم من الميمنة إلى الميسرة ثم رشقوا ملبداً وأصحابه بالنشاب، فقتل ملبد في ثمانمائة رجل ممن ترجل، وقتل منهم قبل أن يترجلوا زهاء ثلاثمائة وهرب الباقون، وتبعهم فضلة فقتل منهم مائة وخمسين رجلاً.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة خرج قسطنطين ملك الروم إلى بلد الإسلام فدخل ملطية عنوةً وقهراً وغلب أهلها وهدم سورها وعفا عمن فيها من المقاتلة والذرية.
وفيها غزا العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الصائفة مع صالح بن علي وعيسى بن علي، وقيل: كانت سنة تسع وثلاثين، فبنى صالح ما كان ملك الروم أخربنه من سور ملطية.
وفيها بايع عبد الله بن علي للمنصور وهو مقيم بالبصرة مع أخيه سليمان ابن علي. وفيها وسع المنصور المسجد الحرام.
وحج الناس هذه السنة الفضل بن صالح بن علي، وكان على المدينة ومكة والطائف زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى الكوفة وسوادها عيسى بن موسى، وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى قضائها سوار بن عبد الله، وعلى خراسان أو داود خالد بن ابراهيم، وعلى مصر صالح بن علي.
وفيها توفي السواد بن رفاعة بن أبي مالك القرطبي. وسعيد بن جمهان أبو حفص الأسلمي، يروي عن سفينة حديث الخلافة ثلاثون. ويونس بن عبيد البصري، وق5يل توفي سنة تسع وثلاثين ومائة. ثم دخلت:

.سنة تسع وثلاثين ومائة:

.ذكر غزو الروم والفداء معهم:

في هذه السنة فرغ صالح بن علي والعباس بن محمد من عمارة ما أخربه الروم من ملطية، ثم غزوا الصائفة من درب الحدث فوغلا في أرض الروم، وغزا مع صالح أختاه أم عيسى ولبابة بنتا علي، وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية أن تجاهدا في سبيل الله. وغزا من درب ملطية جعفر بن حنظلة المرهاني.
وفي هذه السنة كان الفداء بين المنصور وملك الروم، فاستفدى المنصور أسرى قاليقلا وغيرهم من الروم، وبناها وعخمرها ورد إليها، وندب إليها جنداً من أهل الجزيرة وغيرهم، فأقاموا بها وحموها، ولم يكن بعد ذلك صائفة فيما قيل إلا سنة ست وأربعين، لاشتغال المنصور بابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، إلا أن بعضهم قال: إن الحسن بن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام في سنة أربعين، وأقبل قسطنتين ملك الروم في مائة ألف فبلغ جيحان فسمع كثرة المسلمين فأحجم عنهم، ثم لم يكن بعدها صائفة إلى سنة ست وأربعين.

.ذكر دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس:

قد ذكرنا في سنة اثنتين وتسعين فتح الأندلس وعزل موسى بن نصير عنها.
فلما عزل عنها وسار إلى اشام استخلف عليها ابنه عبد العزيز وضبططها وحمى ثغورها وافتتح في ولايته مدائن كثيرة، وكان خيراً فاضلاً، وبقي أميراً إلى سنة سبع وتسعين، وقيل: ثمانٍ وتسعين، فقتل بها. وقد تقدم سبب قتله.
فلما قتل بقي أهل الأندلس ستة أشهر لا يجمعهم والٍ، ثم اتفقوا على أيوب بن حبيب اللخمي، وهو ابن أخت موسى بن نصير، فكان يصلي بهم لصلاحه، وتحول إلى قرطبة وجعلها دار إمارة في أول سنة تسع وتسعين، وقيل سنة ثمان وتسعين.
ثم إن سليمان بن عبد الملك استعمل بعده الحر بن عبد الرحمن الثقفي، فقدمها سنة ثمان وتسعين، فأقام والياً عليها سنتين وتسعة أشهر.
فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة استعمل على الأندلس السمح بن مالك الخولاني وأمره أن يميز أرضها ويخرج منها ما كان عنوةً ويأخذ منه الخمس ويكتب إليه بصفة الأندلس، وكان رأيه إقفال أهلها منها لانقاطاعهم عن المسلمين. فقدمها السمح سنة مائة في رمضان وفعل ما أمره عمر، وقتل عند انصرافه من دار الحرب سنة اثنتين ومائة، وكان قد بدا لعمر في نقل أهلها عنها وتركهم، ودعا لأهلها.
ثم وليها بعد السمح عنبسة بن سحيم الكلبي سنة ثلاثة ومائة، توفي في شعبان سنة سبع ومائة عند انصرافه من غزوة الإفرنج.
ثم وليها بعده يحيى بن سلمى الكلبيفي ذي القعدة سنة سبع، فبقي عليها والياً سنتين وستة أشهر، ثم دخل الأندلس حذيفة بن الأبرص الأشجعي سنة عشر ومائة فبقي والياً عليها ستة أشهر، ثم عزل. ثم وليها عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، فقدمها سنة عشر ومائة وعزل آخر سنة عشر ومائة أيضاً، وكانت ولايته خمسة أشهر.
ثم وليها الهيثم بن عبيد الكناني، فقدمها في المرحم سنة إحدى عشرة ومائة، فأقام والياص عليها عشرة أشهر وأياماً ثم توفي في ذي الحجة، فقدم أهل الأندلس على أنفسهم محمد بن عبد الله الأشجعي، وكانت ولايته شهرين، وولي بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي في صفر سنة اثنتي عشرة ومائة، واستشهد في أرض العدو في رمضان سنة أربع عشرة ومائة.
ثم وليها عبد الملك بن قطن الفهري، فأقام عليها سنتين وعزل. ثم وليها بعده عقبة بن الحجاج السلولي، دخلها سنة ست عشرة ومائة، فوليها خمس سنين، وثار أهل الأندلس به فخلعوه فولوه بعده عبد الملك بن قطن، وهي ولايته الثانية، وقد ذكر بعض مؤرخي الأندلس أنه توفي، فولى أهل الأندلس عبد الملك.
ثم وليها بلج نب بشر القشيري، بايعه أصحابه، فهرب عبد الملك ولحق بداره، وهرب ابناه قطن وأمية فلحق أحدهما بماردة والآخر بسرقسطة، ثم ثارت اليمن على بلج وسألوه قتل عبد الملك بن قطن، فلما خشي فسادهم أمر به فقتل وصلب، وكان عمره تسعين سنة، فلما بلغ ابنيه قتله حشدا من ماردة إلى أربونة، فاجتمع إليهما مائة ألف، وزحفوا إلى بلج ومن معه بقرطبة، فخرج إليهم بلج فلقيهم فيمن معه من أهل الشام بقرب قرطبة فهزمهما، ورجع إلى قرطبة فمات بعد أيام يسيرة.
وكان سبب قدوم بلج الأندلس أنه كان مع همه كلثوم بن عياض في وقعة البربر سنة ثلاث وعشرين، وقد تقدم ذكرها، فلما قتل عمه سار إلى الأندلس، فاجازه عبد الملك بن قطن إليها، وكان سبب قتله.
ثم ولى أهل الشام على الأندلس مكانه ثعلبة بن سلامة العاملي فأقام إلى أن قدم أبو الخطار والياً على الأندلس سنة خمس وعشرين ومائة، فدان له أهل الأندلس، وأقبل إليه ثعلبة وابن أبي نسعة وابنا عبد الملك فآمنهم وأحسن إليهم واستقام أمره، وكان شجاعاً ذا رأي وكرم، وكثر أهل الشام عنده، فلم تحملهم قرطبة، ففرقهم في البلاد، فانزل أهل دمشق إلبيرة لشبهها بها سوماها دمشق، وأنزل أهل حمص إسبيلية وسماها حمص، وأنزل أهل قنسرين بجيان وسماها قنسرين، وأنزل أهل الأردن برية وسماها الأردن، وأنزل أهل فلسطين بشذونة وسماها فلسطين، وأنزل أهل مصر بتدمير وسماها مصر لشبهها بها، ثم تعصب ليمانية، وكان ذلك سبباً لتألب الصميل بن حاتم عليه مع مضر وحربه وخلعه. وقامت هذه الفتنة سنة سبع وعشرين ومائة.
وكان الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن قد قدم الأندلس في أمداد الشام فرأس بها، فأراد أبو الخطار أن يضع منه فأمر به يوماً وعنده الجند فشتم وأهين، فخرج وعمامته مائلة، فقال له بعض الحجاب: ما بال عمامتك مائلة؟ فقال: إن كان لي قوم فسيقيمونها، وبعث إلى قومه فشكا إليهم ما لقي. فقالوا: نحن لك تبع، وكتبوا إلى ثوابة بن سلامة الجذامي، وهو من أهل فلسطين، فوفد عليهم وأجابهم وتبعهم لخم وجذام.
فبلغ ذلك إلى أبي الخطار فسار إليهم، فقاتلوه فانهزم أصحابه وأسر أبو الخطار ودخل ثوابة قصر قرطبة وأبو الخطار في قيوده، فولي ثوابة الأندلس سنتين ثم توفي، فأراد أهل اليمن إهادة أبي الخطار، وامتنعت مضر ورأسهم الصميل، فافترقت الكلمة، فأقامت الأندلس أربعة أشهر بغي أميرز وقد تقدم أبسط من هذا سنة سبع وعسرين ومائة.
فلما بقوا بغير أمير قدموا عبد الرحمن بن كثير اللخمي للأحكام. فلما تفاقم الأمر اتفق رأيهم على يوسف بت عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري، فوليها يوسف سنة تسع وعشرين،فاستقر الأمر أن يلي سنة ثم يرد الأمر إلى اليمن فيولون من أحبوا من قومهم.
فلما انقضت السنة أقبل أهل اليمن بأسهم يريدون أن يولوا رجلاً منهم، فبيتهم الصميل فقتل منهم خلقاً كثيراً، فهي وقعة شقندة المشهورة، وفيها قتل أبو الخطار واقتتلوا بالرماح حتى تقطعت وبالسيوف حتى تكسرت، ثم تجاذبوا بالشعور، وكان ذلك سنة ثلاثين، واجتمع الناس على يوسف ولم يعترضه أحد.
وقد قيل غير ما ذكرنا، وقد تقدم ذكره سنة سبع وعشرين ومائة.
ثم توالى القحط على الأندلس وجلا أهلها عنها وتضعضعت إلى سنة ست وثلاثين ومائة، وفيها اجتمع تميم بن معبد الفعري وعامر العبدري بمدينة سرقسطة، وحاربهما الصميل، ثم سار إليهما يوسف الفهري فحاربهما فقتلهما، وبقي يوسف على الأندلس إلى أن غلب عليها عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام.
هذا ما ذكرناه من ولاة الأندلس على الاختصار، وقد تقدم أبسط من هذا متفرقاً، وإنما أوردناه هاهنا متتابعاً ليتصل بعض أخبار الأندلس ببعض لأنها وردت متفرقة. ونرجع إلى ذكر عبور عبد الرحمن بن معاوية بن هشام إليها.
وأما سبب مسير عبد الرحمن إلى الغرب فإنه يحكى عنه أنه لما ظهرت الدولة العابسية وقتل من بنني أمية من قتل ومن شيعتهم فر منهم من نجا في الأرض، وكان عبد الرحمن بن معاوية بذات الزيتون، ففر منها إلى فلسطين وأقام هو مولاه بدر يتجسس الأخبار، فحكي عنه أنه قال: لما أعطينا الأمان ثم نكث بنا بنهر أبي فطرس وأبيحت دماؤنا أتانا الخبر وكنت منتبذاً من الناس، فرجعت إلى منزلي أيساً ونظرت فيما يصلحني وأهلي وخرجت خائفاً حتى صرت إلى قرية على الفرات ذات شجر وغياض، فبينا أنا ذات يوم بها وولدي سليمان يلعب بين يدي، وهو يومئذ ابن أربع سنين، فخرج عني ثم دخل الصبي من باب البيت باكياً فزعاً فتعلق بي، وجعلت أدفعه وهو يتعلق بي، فخرجت لأنظر وإذ بالخوف قد نزل بالقرية، وإذا بالرايات السود منحطة عليها، وأخ لي حديث السن يقول ليك النجاء النجاء! فهذه رايات المسودة! فأخذت دنانير معي ونجوت بنفي وأخي وأعلمت أخوتي بمتوجهي فأمرتهن أن يلحقنني مولاي بداراً، وأحاطت الخيل بالقرية فلم يجدوا لي أثراً، فأتيت رجلاً من معارفي وأمته فاشترى لي دواب وما يصلحني، فدل علي عبد له العامل، فأقبل في خيله يطلبني، فخرجنا على أرجلنا خهراباً والخيل تبصرنا فدخلنا في بساتين على الفرات فسبقنا الخيل إلى الفرات فسبحنا. فأما أنا فنجوت والخيل ينادوننا بالأمان ولا أرجع. وأما أخي فإنه عجز عن السباحة في نصف الفرات فرجع إليهم بالأمان وأخذوه فقتلوه وأنا أنظر إليه، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فاحتملت فيه ثكلاً ومضيت لوجهي فتواريت في غيضة أشبة حتى انقطع الطلب عني، وخرجت فقصدت المغرب فبلغت إفريقية.
ثم إن أخته أم الأصبغ ألحقته بدراً مولاه ومعه نفقة له وجوهر، فلما بلغ إفريقية لج عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري، قيل هو والد يوسف أمير الأندلس، وكان عبد الرحمن عامل إفريقية في طلبه، واشتد عليه، فهرب منه فأتى مكناسة، وهم قبيل من البربر، فلقي عندهم شدةً يطول ذكرها ثم هرب من عندهم فأتى نفراوة، وهم أخواله، وبدر معه.
وقيل: أتى قوماً من الزناتيين فأحسنوا قبوله واطمأن فيهم وأخذ في تدبير المكاتبة إلى الأمويين من اهل الأندلس يعلمهم بقدومه ويدعوهم إلى نفسه، ووجه بدراً مولاه إليهم، وأمي الأندلس حينئذ يوسف بن عبد الرحمن الفهري.
فسار بدر إليهم وأعلمهم حال عبد الرحمن ودعاهم إليه، فأجابوه ووجهوا له مركباً فيه ثمامة بن علقمة، ووهب بن الأصفر، وساكر بن أبي الأشمط، فوصلوا إليه وأبلغوه طاعتهم له وأخذوه ورجعوا إلى الأندلس، فأرسى في المنكب في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثيثن ومائة، فأتاه جماعة من رؤسائهم من أهل إشبيلية، وكانت أيضاً نفوس أهل اليمن حنقة على الصميل ويوف الفهري، فأتوه. ثم انتقل إلى كورة رية فبايعه إبراهيم ابن شجرة عاملها. ثم أتى إشبيلية فبايعه أبو الصباح يحيى بن يحيى، ونهد إلى قرطبة.
فبلغ خبره إلى يوسف وكان غائباً عن قرطبة بنواحي طليطلة، فاتاه الخبر وهو راجع إلى قرطبة، فسار عبد الرحمن نحو قرطبة.
فلما أتى قرطبة تراسل هو ويوسف في الصلح، فخادعه نحويومين، أحدهما يوم عرفة ولم يشك أحد من أصحاب يوسف أن الصلح قد ابرم، وأقبل على إعداد الطعام لياكله الناس على السماط يوم الأضحى، وعبد الرحمن مرتب خيله ورجله، وعبر النهر في أصحابه ليلاً، ونشب القتال ليلة الأضحى، وصبر الفريقان ألى أن ارتفع النهار، وركب عبد الرحمن على بغل لئلا يظن النماس أنه يهرب، فلما رأوه كذلك سكنت نفوسهم، وأسرع القتل في أصحاب يوسف وانهزم، وبقي الصميل يقاتل مع عصابة من عشيرته ثم انهزموا، فظفر عبد الرحمن، ولما انهزم يوسف أتى ماردة، وأتى عبيد الرحمن قرطبة فأخرج حشم يوسف من القصر على عودة ودخله بعد ذلك.
ثم سار في طلب يوسف، فلما أحس به يوسف خالفه إلى قرطية فدخلها وملك قصرها فأخذ جميع أهله وماله ولحق بمدينة إلبيرة، وكان الصميل لحق بمدينة شوذر.
وورد عبد الرحمن الخبر فرجع إلى قرطبة طمعاً في لحاقه بها، فلما لم يجده عزم على النهوض إليه، فسار إلى إلبيرة، وكان الصميل قد لحق بيوسف وتجمع لهما هناك جمع، فتراسلوا في الصلح، فاصطلحوا على أن ينزل يوسف بأمان هو ومن معه وأن يسكن مع عبد الرحمن بقرطبة، ورهنه يوسف ابنيه: أبا الأسود محمداً، وعبد الرحمن؛ وسار يوسف مع عبد الرحمن، فلما دخل قرطبة تمثل:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ** إذا نحن فيهم سوقة نتنصف

واستقر عبد الرحمن بقرطبة ونى القصر والمسجد الجامع وأنفق فيه ثمانين ألف دينار، ومات قبل تمامه، وبني مساجد الجماعات، ووافاه جماعة من أهل بيته، وكان يدعو للمنصور.
وقد ذكر أبو جعفر أن دخول عبد الرحمن كان سنة تسع وثلاثين، وقيل: سنة ثمان وثلاثين، على ما ذكرنا.
وهذا القدر كافٍ في ذكر دخوله الأندلس لئلا نخرج عن الذي قصدنا له من الأختصار.

.ذكر حبس عبد الله بن علي:

ولما عزل سليمان عن البصرة اختفى أخوه عبد الله بن علي ومن معه من أصحابه خوفاً من المنصور، فبلغ ذلك المنصور فأرسل إلى سليمان وعيسى ابني علي بن عبد الله بن عباس في إشخاص عبد الله وأعطاهما الأمان لعبد الله وعزم عليهما أن يفعلا.
فخرج سليمان وعيسى بعبد الله وقواده ومواليه حتى قدموا على المنصور في ذي الحجة، فلما قدموا عليه أذن لسليمان وعيسى فدخلا عليه وأعلماه حضور عبد الله وسالاه الإذن له، فأحابهما إلى ذلك وسغلهما بالحديث، وكان قد هيأ لعبد الله مكاناً في قصره، فأمر به أن يصرف إليه بعد دخول سليمان وعيسى، ففعل به ذلك، ثم نهض المنصور وقال لسليمان وعيسى: خذا عبد الله معكما. فلما خرجا لم يجدا عبد الله، فعلما أنه قد حبس، فرجعا إلى المنصور فمنعا عنه وأخذت عند ذلك سيوف من حضر من أصحابه وحبسوا.
وقد كان خفاف بن منصور حذرم ذلك، وندم على مجيئه معهم، وقال: إن أطعمتموني شددنا شدة واحدة على أبي جعفر، فوالله لا يحول بين وبيننا حائل حتى نأتي عليه! ولا يعرض لنا أحد إلا قتلناه وننجو بأنفسنا! فعصوه.
فلما أخذت سيوفهم وحبسوا جعل خفاف يضرط في لحية نفسه ويتفل في وجوه أصحابه؛ ثم أمر المنصور بقتل بعضهم بحضرته وبعث الباقين إلى أبي داود خالد بن إباهيم بخراسان فقتلهم بها.

.ذكر عدة حوادث:

عزل سليمان بن علي عن إمارة البصرة، وقيل: سنة أربعين، واستعمل عليها سفيان بن معاوية في رمضان.
وحج بالناس هذه السنة العباس بن محمد بن علي، وكان على مكة والمدينة والطائفة زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سفيان بن معاوية، وعلى قضائها سوار بن عبد الله، وعلى خراسان أبو داود.
وفيها مات عبد ربه سعيد بن قيس الأنصاري وقيل: سنة إحدى وأربعين. وفيها مات العلاء بن عبد الرحمن مولى الخرقة، ومحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن ابي صعصعة المازني، ويزيد بن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي، وكان موته بالإسكندرية. ثم دخلت:

.سنة أربعين ومائة:

.ذكر هلاك أبي داود عامل خراسان وولاية عبد الجبار:

وفي هذه السنة هلك أبو داود خالد بن إبراهيم الذهلي عامل خراسان.
وكان سبب هلاكه أن ناساً من الجند ثاروا به وهو بكشماهن ووصلوا إلى المنزل الذي هو فيه، فأشرف عليهم من الحائط ليلاً فوطئ حرف آجرة خارجة وجعل ينادي أصحابه ليعرفوا صوته، فانكسرت الآجرة تحته عند الصبح فسقط على الأرض فانكسر ظهره فمات عند صلاة العصر، فقالم عصام صاحب شرطته بعده حتى قدم عليه عبد الجبا بن عبد الرحمن الأزدي عاملاً على خراسان، فملا قدمها أخذ جماعةً من القواد أتهمهم بالدعاء إلى ولد علي بن أبي طالب، منهم: مجاشع بن حريث الأنصاري عامر بخارى، وأبو المغيرة خالد بن كثير مولى بني تميم عامل قوهستان، والحريش بن محمد الدهلي، وهو ابن عم أبي داود، فقاتلهم وحبس جماعةً غيرهم وألح على عمال أبي داود في استخراج ما عندهم من الأموال.

.ذكر قتل يوسف الفهري:

في هذه السنة نكث يوسف الفهري الذي كان أمير الأندلس، عهد عبد الرحمن الأموي.
وكان سبب ذلك أن عبد الرحمن كان يضع عليه من يهينه وينازعه في أملاكه، فإذا أظهر حجة الشريعة لا يعمل بها، ففطن لما يراد منه فقصد ما ردة واجتمع عليه عشرون ألفاً، فسار نحو عبد الرحمن، وخرج عبد الرحمن من قرطبة نحوه إلى حصن المدور.
ثم إن يوسف رأى أن يسير إلى عبد الملك بن عمر بن مروان، وكان والياً على إشبيلية وإلى ابنه عمر بن عبد الملك، وكان على المدور، فسار نحوها؛ وخرجا إليه فلقياه، فاققتلا قتالاً شديداً، فصبر الفريقان وانهزم أصحاب يوسف وقتل منهم خلق كثير وهرب يوسف وبقي متردداً في البلاد، فقتله بعض أصحابه في رجب من سنة اثنتين وأربعين بنواحي طليطلة وحمل رأسه إلى عبد الرحمن، فنصبه بقرطبة وقتل ابنه عبد الرحمن بن يوسف الذي كان عنده رهينةً، ونصب رأسه مع رأس أبيه، وبقي أبو الأسود بن يوسف عند عبد الرحمن الأموي رهينةً، وسأتي ذكره.
وأما الصميل فإنه لما فر يوسف من قرطبة لم يهرب معه، فدعاه الأمير عبد الرحن وسأله عنه، فقال: لم يعلمني بأمره ولا أعرف خبره، فقال: لا بد أن تخبر. فقال: لو كان تحت قديم ما رفعتهما عنه؛ فسجنه مع ابني يوسف. فلما هربا من السجن أنف من الهرب والفرار فبقي في السجن، ثم أدخل إليه بعد ذلك مشيخة مضر فوجدوه ميتاً وعنده كأس ونقل فقالوا: يا أبا جوشن قد علمنا أنك ما شربت ولكن سقيت! ودفع إلى أهله فدفنوه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة هلك أذفنش ملك جليقية وملك بعده ابنه تدويلية، وكان أشجع من أبيه وأحسن سياسة للملك وضبطاً له؛ وكان ملك أبيه ثماني عشرة سنة. ولما ملك ابنه قوي أمره وعظم سلكانه وأخرج المسلمين من ثغور البلاد وملك مدينة لك وبرطقال وشلمنقة وشمورة وأيلة وشقويبة وفشتيالة؛ وكل هذه من الأندلس.
وفيها سير المنصور عبد الوهاب، ابن أخيه إبراهيم الإمام، والحسن بن قحطبة في سبعين ألفاً من المقاتلة إلى ملطية، فنزلوا عليها وعمروا ما كان خربه الروم منها ففرغوا من العمارة في ستة أشهر، وكان للحسن في ذلك أثر عظيم، وأسكنها المنصور أربعة آلاف من الجند وأكثر فيها من السلاح والذخائر وبنى حصن قلوذية.
ولما سمع ملك الروم بمسير عبد الوهاب والحسن إلى ملطية سار إليهم في مائة ألف مقاتل فنزل جيحان، فبلغه كثرة المسملين فعاد عنهم. ولما عمرت ملطية عاد غليها من كان باقياًمن أهلها.
وفيها حج المنصور بعمارة مدينة المصيصة على يد جبرائيل بن يحيى، وكان سورها قد تشعث من الزلازل وأهلها قليل، فبنى السور وسماها المعمورة، وبنى بها مسجداً دامعاً، وفرض فيها لألف رجل، وأسكنها كثيراً من أهلها.
وفيها توفي سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة. وعمرو بن يحيى بن أبي حسن الأنصاري. وعمارة بن غزية الأنصاري. وعمارة بن غزية الأنصاري، وكان ثقة. وأبو العلاء أيوب القصاب. وأبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكانفي، وهومتكلمي المعتزل، وأئمتهم، وله طائفة تنسب إليه. وأسماء بن عبيد بن مخارق، والد حويزة بن أسماء. ثم دخلت:

.سنة إحدى وأربعين ومائة:

.ذكر خروج الراوندية:

وفي هذه السنة كان خرروج الراوندية على المنصور؛ وهم قوم من أهل خراسان على رأي أبي مسملم صاحب الدعوة، يقولون بتناسخ الأرواح، يزعمون أن روح آدم في عثمان بن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو المنصور، وأن جبرائيل هو الهيثم نب معاوية.
فلما ظهروا وأوا قصر المنصور فقالزا: هذا قصر المنصور فقالوا: هذا قصر ربنا. فاخذ المنصور رؤساءهم فحبس منهم مائتين، فغضب أصحابهم وأخذوا نعاشلً وحملو السرير، وليس في النعش أحد، ومروا به حتى صاروا على باب السجن فرموا بالنعش، وحملوا على الناس ودخلوا السجن وأخرجوا أصحابهم،وقصدوا نحو المنصور، وهم يومئذ ستمائة رجل، فتنادى الناس وغلقت أبواب المدينة فلم يدخل أحد؛ فخرج المنصور من القصر ماشياً، ولم يكن في القصر دابة، فجعل بعد ذلك اليوم يرتبط دابه معه في القصر.
فلما خرج المنصور أتي بدابة فركبها وهويريدهم، وتكاثروا عليه حتى كادوا يقتلونه وجاء معن بن زائدة الشيباني، وكان مستتراً من المنصور بقتاله مع ابن هبيرة، كما ذكرناه والمنصور شديد الطلب له وقد بذل بلاء حسناً، وكان المنصور راكباً على بغلة ولجامها بيد الربيع حاجبه، فأتى معن وقال: تنح فأنا أحق بهذا اللجام منك في هذا الوقت وأعظم غناء. فقال المنصور: صدق فادفعه إليه. فلم يزل يقاتل حتى كشفت الحال وظفر بالرواندية. فقال له المنصور: من أنت؟ قال: طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة. فقال: آمنك بالله على نفسك ومالك وأهلك، مثلك يصطنع.
وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم فوقف على باب المنصور وقال: أنا اليوم بواب. ونودي في أهل السوق فرموهم وقاتلوهم وفتح باب المدينة فدخل الناس، فجاء خازم بن خزيمة فحمل عليهم حتى ألجأهم إلى الحائط، ثم حملوا عليه فكشفوه مرتين، فقال خازم للهيثم بن شعبة: إذا كروا علينا فاستبقهم إلى الحائط، فإذا رجعوا فاقتلهم. فحملوا على خازم، فاطرد لهم وصار الهيثم من ورائهم فقتلوا جميعاً.
وجاءهم يومئذ عثمان بن نهيك فكلمهم، فرموه بسهم عند رجوعه فوقع بين كتفيه فمرض أياماً ومات منها، فصلى عليه المنصور وجعل على حرسه بعده عيسى بن نهيك، فكان على الحرس حتى مات، فجعل على الحرس أبو العباس الطوسي، وكان ذلك كله بالمدينة الهاشمية بالكوفة.
فلما صلى المنصور الظهر دعا بالعشاء وأحضر معناً ورفع منزلته وقال لعمه عيسى بن علي بن عبد الله بن عابس: يا أبا العباس أسمعت بأشد رجل؟ قال: نعم. قال: لو رأيت اليوم معناً لعلمت أنه منهم. فقال معن: والله يا أمير المؤمنين لقد أتيتك وإني لوجل القلب، فلما رأيت ما عندك من الاستهانة بهم وشدة الإقدام عليهم رأيت ما لم أره من خلقٍ في حرب فشد ذلك من قلبي وحملني على ما رأيت مني.
وقيل: كان معن متخفياً من المنصور لما كان منه من قتاله مع ابن هبيرة، كما ذكرناه، وكان اختفاؤه عند أبي الخصيب حاجب المنصور، وكان على أن يطلب الأمان، فلما خرجت الراوندية جاء معن فوقف بالباب، فسأل المنصور أبا الخطيب: من بالباب؟ فقال: معن بن زائدة. فقال المنصور: رجل من العرب شديد النفس علم بالحرب كريم الحسب، أدخله، فلما دخل قال: أيه يا معن! ما الرأي؟ قال: الرأي أن تنادي في الناس فتأمرهم لهم بالأموال.
فقال: واين الناس والأموالل؟ ومنة تقدم على أن يعرض نفسه لهؤلاء العلوج! لم تصنع شيئاً يا معن! الرأي أن اخرج فأقف للناس، فإذا رأوني قاتلوا وتراجعوا إلي، وإن أقمت تهاونوا وتخاذلو: فأخذ معن بيده وقال: لا أمير المؤمنين إذاً، والله تقتل الساعة، فأنشدك الله في نفسك! فقال له أبو الخطيب مثلها، فجذب ثوبه مهما وركب دابته وخرج ومعن آخذ بلجام دابته وأبو الخصيب مع ركابه، وأتاه رجل فقتله معن حتى قتل أربعةً في تلك الحالة، حتى اجتمع إليه الناس فلم يكن إلا ساعة حتى أفنوهم، ثم تغيب معن، فسأل المنصور عنه أبا الخطيب فقال: لا أعلم مكانه. فقال المنصور: ايظن معن أن لا أغفر ذنبه بعد بلائه؟ أعطه الأمان وأدخله علي فأدخله إليه، فأمر له بعشرة آلاف درهم، ثم ولاه اليمن.